سورة المائدة - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِي إسراءيل وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً} هو الذي ينقب عن أحوال القوم ويفتش عنها. ولما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله بالمسير إلى أريحا أرض الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة وقال لهم: إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها وإني ناصركم، وأمر الله موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقة عليهم، فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل وتكفل لهم به النقباء وسار بهم، فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون فرأوا أجراماً عظيمة وقوة وشوكة فهابوا ورجعوا فحدثوا قومهم وقد نهاهم أن يحدثوهم فنكثوا الميثاق إلا كالب بن يوقنا ويوشع بن نون وكانا من النقباء {وَقَالَ الله إِنّى مَعَكُمْ} أي ناصركم ومعينكم. وتقف هنا لابتدائك بالشرط الداخل عليه اللام الموطئة للقسم وهو {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَءَاتَيْتُمُ الزكواة} وكانتا فريضتين عليهم {وَآمَنتُم بِرُسُلِي} من غير تفريق بين أحد منهم {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} وعظمتموهم أو نصرتموهم بأن تردّوا عنهم أعداءهم، والعزر في اللغة الردّ ويقال عزرت فلاناً أي أدّبته يعني فعلت به ما يردعه عن القبيح كذا قاله الزجاج {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً} بلا مَنٍّ وقيل: هو كل خير. واللام في {لأُِّّكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سيئاتكم} جواب للقسم وهذا الجواب سادّ مسد جواب القسم والشرط جميعاً {وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ} أي بعد ذلك الشرط المؤكد المتعلق بالوعد العظيم {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} أخطأ طريق الحق، نعم من كفر قبل ذلك فقد ضل سواء السبيل أيضاً ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم.
{فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} {ما} مزيد لإفادة تفخيم الأمر {لعناهم} طردناهم وأخرجناهم من رحمتنا أو مسخناهم أو ضربنا عليهم الجزية {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} يابسة لا رحمة فيها ولا لين. {قسيّة}: حمزة وعلي أي رديئة من قولهم: (درهم قسي) أي رديء {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مواضعه} يفسرونه على غير ما أنزل وهو بيان لقسوة قلوبهم لأنه لا قسوة أشد من الافتراء على الله وتغيير وحيه {وَنَسُواْ حَظَّا} وتركوا نصيباً جزيلاً وقسطاً وافياً {مّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} من التوراة يعني أن تركهم وإعراضهم عن التوراة إغفال حظ عظيم، أو قست قلوبهم وفسدت فحرفوا التوراة وزلت أشياء منها عن حفظهم. عن ابن مسعود رضي الله عنه: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية. وقيل: تركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته {وَلاَ تَزَالُ} يا محمد {تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ} أي هذه عادتهم وكان عليها أسلافهم، كانوا يخونون الرسل وهؤلاء يخونونك ويهمون بالفتك بك، وقوله {على خائنة} أي على خيانة أو على فعلة ذات خيانة أو على نفس أو فرقة خائنة، ويقال: (رجل خائنة) كقولهم (رجل راوية للشعر) للمبالغة.
{إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} وهم الذين آمنوا منهم {فاعف عَنْهُمْ} بعث على مخالفتهم، أو فاعف عن مؤمنيهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم {واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} و{من} في قوله:
{وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم} وهو الإيمان بالله والرسل وأفعال الخير يتعلق بأخذنا أي وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم، فقدم على الفعل الجار والمجرور وفصل بين الفعل والواو بالجار والمجرور. وإنما لم يقل (من النصارى) لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصر الله وهم الذين قالوا لعيسى: نحن أنصار الله. ثم اختلفوا بعد نسطورية ويعقوبية وملكانية أنصاراً للشيطان {فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا} فألصقنا وألزمنا من غرى بالشيء إذا لزمه ولصق به ومنه الغراء الذي يلصق به {بَيْنَهُمْ} بين فرق النصارى المختلفين {العداوة والبغضاء إلى يَوْمِ القيامة} بالأهواء المختلفة {وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} أي في القيامة بالجزاء والعقاب.
{ياأهل الكتاب} خطاب لليهود والنصارى، والكتاب للجنس {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد عليه السلام {يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} من نحو صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن نحو الرجم {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} مما تخفونه لا يبينه أو يعفو عن كثير منكم لان يؤاخذه {قَدْ جَاءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وكتاب مُّبِينٌ} يريد القرآن لكشفه ظلمات الشرك والشك ولإبانته ما كان خافياً على الناس من الحق، أو لأنه ظاهر الإعجاز، أو النور محمد عليه السلام لأنه يهتدى به كما سمي سراجاً {يَهْدِي بِهِ الله} أي بالقرآن {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} من آمن منهم {سُبُلَ السلام} طرق السلامة والنجاة من عذاب الله أو سبل الله فالسلام السلامة أو الله {وَيُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام {بِإِذْنِهِ} بإرادته وتوفيقه {وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ * لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} معناه بت القول على أن الله هو المسيح لا غير. قيل: كان في النصارى قوم يقولون ذلك، أو لأن مذهبهم يؤدي إليه حيث إنهم اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً} فمن يمنع من قدرته ومشيئته شيئاً {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً} أي إن أراد أن يهلك من دعوه إلهاً من المسيح وأمه يعني أن المسيح عبد مخلوق كسائر العباد.
وعطف {من في الأرض جميعاً} على (المسيح وأمه) إبانة أنهما من جنسهم لا تفاوت بينهما وبينهم، والمعنى أن من اشتمل عليه رحم الأمومية متى يفارقه نقص البشرية، ومن لاحت عليه شواهد الحدثية أنى يليق به نعت الربوبية، ولو قطع البقاء عن جميع ما أوجد لم يعد نقص إلى الصمدية.
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي يخلق من ذكر وأنثى ويخلق من أنثى بلا ذكر كما خلق عيسى، ويخلق من ذكر من غير أنثى كما خلق حواء من آدم، ويخلق من غير ذكر وأنثى كما خلق آدم، أو يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة له فلا اعتراض عليه لأنه الفعال لما يريد {والله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} أي أعزة عليه كالابن على الأب، أو أشياع ابني الله عزير والمسيح كما قيل لأشياع أبي خبيب وهو عبد الله بن الزبير الخبيبيون، وكما كان يقول رهط مسيلمة نحن أبناء الله ويقول أقرباء الملك وحشمه نحن أبناء الملوك أو نحن أبناء رسل الله {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} أي فإن صح أنكم أبناء الله وأحباؤه فلم تعذبون بذنوبكم بالمسخ والنار أياماً معدودة على زعمكم، وهل يمسخ الأب ولده وهل يعذب الولد ولده بالنار؟ ثم قال رداً عليهم {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} أي أنتم خلق من خلقه لا بنوه {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} لمن تاب عن الكفر فضلاً {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ} من مات عليه عدلاً {وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المصير} فيه تنبيه على عبودية المسيح لأن الملك والبنوة متنافيان.
{ياأهل الكتاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد عليه السلام {يُبَيِّنُ لَكُمْ} أي الشرائع وحذف لظهوره، أو ما كنتم تخفون وحذف لتقدم ذكره أو لا يقدر المبين ويكون المعنى يبذل لكم البيان وهو حال أي مبيناً لكم {على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل} متعلق ب {جاءكم} أي جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع من الوحي، وكان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة أو خمسمائة سنة وستون سنة {أَن تَقُولُواْ} كراهة أن تقولوا {مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} والفاء في {فَقَدْ جَاءَكُمْ} متعلق بمحذوف أي لا تعتذروا فقد جاءكم {بَشِيرٌ} للمؤمنين {وَنَذِيرٌ} للكافرين، والمعنى الامتنان عليهم بأن الرسول بعث إليهم حتى انطمست آثار الوحي أحوج ما يكونون إليه ليهشوا إليه ويعدوه أعظم نعمة من الله وتلزمهم الحجة فلا يعتلوا غداً بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم من غفلتهم {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فكان قادراً على إرسال محمد عليه السلام ضرورة.


{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء} لأنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} لأنه ملكهم بعد فرعون ملكه وبعد الجبابرة ملكهم، ولأن الملوك تكاثروا فيهم تكاثر الأنبياء. وقيل: الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار وكانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية. وقيل: من له بيت وخدم، أو لأنهم كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله فسمي إنقاذهم ملكاً {وءاتاكم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن العالمين} من فلق البحر وإغراق العدو وإنزال المن والسلوى وتظليل الغمام ونحو ذلك من الأمور العظام أو أراد عالمي زمانهم {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} أي المطهرة أو المباركة وهي أرض بيت المقدس أو الشام {الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قسمها لكم أو سماها أو كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكن لكم {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم} ولا ترجعوا على أعقابكم مدبرين منهزمين من خوف الجبابرة جبناً أو لا ترتدوا على أدباركم في دينكم {فَتَنقَلِبُواْ خاسرين} فترجعوا خاسرين ثواب الدنيا والآخرة.
{قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا} بالقتال {حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا} بغير قتال {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا} بلا قتال {فَإِنَّا داخلون} بلادهم حينئذ {قَالَ رَجُلاَنِ} كالب ويوشع {من الّذين يخافونَ} الله ويخشونه كأنه قيل رجلان من المتقين وهو في محل الرفع صفة ل {رجلان} وكذا {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} بالخوف منه {ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب} أي باب المدينة {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالبون} أي انهزموا وكانت الغلبة لكم، وإنما علما ذلك بإخبار موسى عليه السلام {وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إذ الإيمان به يقتضي التوكل عليه وهو قطع العلائق وترك التملق للخلائق {قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا} هذا نفي لدخولهم في المستقبل على وجه التوكيد {أَبَدًا} تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول {مَّا دَامُواْ فِيهَا} بيان للأبد {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ} من العلماء من حمله على الظاهر. وقال: إنه كفر منهم وليس كذلك إذ لو قالوا ذلك اعتقاداً وكفروا به لحاربهم موسى ولم تكن مقاتلة الجبارين أولى من مقاتلة هؤلاء، ولكن الوجه فيه أن يقال: فاذهب أنت وربك يعينك على قتالك، أو وربك أي وسيدك وهو أخوك الأكبر هارون، أو لم يرد به حقيقة الذهاب ولكن كما تقول: {كلمته فذهب يجيبني} تريد معنى الإرادة كأنهم قالوا أريدا قتالهم: {فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون} ماكثون لا نقاتلهم لنصرة دينكم فلما عصوه وخالفوه {قَالَ رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ} لنصرة دينك {إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى} وهو منصوب بالعطف على {نفسي} أو على اسم {إن} أي إني لا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملك إلا نفسه، أو مرفوع بالعطف على محل {إن} واسمها، أو على الضمير في {لا أملك} وجاز للفصل أي ولا يملك أخي إلا نفسه، أو هو مبتدأ والخبر محذوف أي وأخي كذلك، وهذا من البث والشكوى إلى الله ورقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة وكأنه لم يثق بالرجلين المذكورين كل الوثوق فلم يذكر إلا النبي المعصوم، أو أراد ومن يؤاخيني على ديني {فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين} فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما وعدتنا وتحكم عليهم بما هم أهله وهو في معنى الدعاء عليهم، أو فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم كقوله:
{وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين} [التحريم: 11].
{قَالَ فَإِنَّهَا} أي الأرض المقدسة {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} لا يدخلونها وهو تحريم منع لا تحريم تعبد كقوله {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع} [القصص: 12]. والمراد بقوله {كتب الله لكم} أي بشرط أن تجاهدوا أهلها فلما أبوا الجهاد قيل: فإنها محرمة عليهم، أو المراد فإنها محرمة عليهم: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} فإذا مضى الأربعون كان ما كتب فقد سار موسى عليه السلام بمن بقي من بني إسرائيل وكان يوشع على مقدمته ففتحها وأقام فيها ما شاء الله ثم قبض. و{أربعين} ظرف التحريم والوقف على سنة أو ظرف {يَتِيهُونَ فِى الأرض} أي يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقاً أربعين سنة والوقف على {عليهم}. وإنما عوقبوا بالحبس لاختيارهم المكث فكانوا مع شدة سيرهم يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا في ستة فراسخ. ولما ندم على الدعاء عليهم قيل له: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} فلا تحزن عليهم لأنهم فاسقون. قيل: لم يكن موسى وهارون معهم في التيه لأنه كان عقاباً وقد سأل موسى ربه أنه يفرق بينهما وبينهم. وقيل: كانا معهم إلا أنه كان ذلك روحاً لهما وسلاماً لا عقوبة. ومات هارون في التيه، وموسى فيه بعده بسنة، ومات النقباء في التيه إلا كالب ويوشع.
ثم أمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقص على حاسديه ما جرى بسبب الحسد ليتركوه ويؤمنوا بقوله:


{واتل عَلَيْهِمْ} على أهل الكتاب {نَبَأَ ابنى ءَادَم} من صلبه هابيل وقابيل، أو هما رجلان من بني إسرائيل {بالحق} نبأ ملتبساً بالصدق موافقاً لما في كتب الأولين، أو تلاوة ملتبسة بالصدق والصحة، أو واتل عليهم وأنت محق صادق {إِذْ قَرَّبَا} نصب بالنبأ أي قصتهما وحديثهما في ذلك الوقت، أو بدل من النبأ أي اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف {قُرْبَاناً} ما يتقرب به إلى الله من نسيكة أو صدقة. يقال: قرب صدقة وتقرب بها لأن تقرب مطاوع قرب، والمعنى إذ قرب كل واحد منهما قربانه دليله {فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا} قربانه وهو هابيل {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} قربانه وهو قابيل. رُوي أنه أوحى الله تعالى إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر، وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها إقليما فحسده عليها أخوه وسخط فقال لهما آدم: قربا قرباناً فمن أيكما قبل يتزوجها فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل حسداً وسخطاً وتوعده بالقتل وهو قوله {قَالَ لأقْتُلَنَّكَ} أي قال لهابيل {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} وتقديره: قال لم تقتلني:؟ قال: لأن الله قبل قربانك ولم يقبل قرباني. فقال: إنما يتقبل الله من المتقين وأنت غير متق فإنما أوتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا من قبلي. وعن عامر ابن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له: ما يبكيك وقد كنت وكنت؟ قال: إني أسمع الله يقول: {إنما يتقبل الله من المتقين}.
{لَئِن بَسَطتَ} مددت {إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ} بماد {يَدَىِ} مدني وأبو عمرو وحفص {إِلَيْكَ لأِقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} قيل: كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكن تحرج عن قتل أخيه واستسلم له خوفاً من الله تعالى لأن الدفع لم يكن مباحاً في ذلك الوقت، وقيل: بل كان ذلك واجباً فإن فيه إهلاك نفسه ومشاركة للقاتل في إثمه، وإنما معناه ما أنا بباسط يدي إليك مبتدئاً كقصدك ذلك مني، وكان هابيل عازماً على مدافعته إذا قصد قتله وإنما قتله فتكاً على غفلة منه. {إنّي أخاف}: حجازي وأبو عمرو {إِنّى أُرِيدُ} {إنّي} مدني {أَن تَبُوءَ} أن تحتمل أو ترجع {بِإِثْمِى} بإثم قتلي إذا قتلتني {وَإِثْمِكَ} الذي لأجله لم يتقبل قربانك وهو عقوق الأب والحسد والحقد، وإنما أراد ذلك لكفره برده قضية الله تعالى أو كان ظالماً وجزاء الظالم جائز أن يراد {فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} فوسعته ويسرته من طاع له المرتع إذا اتسع {فَقَتَلَهُ} عند عقبة حراء أو بالبصرة والمقتول ابن عشرين سنة {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين * فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الأرض لِيُرِيَهُ} أي الله أو الغراب {كَيْفَ يُوَارِى سَوْءةَ أَخِيهِ} عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده.
رُوي أنه أول قتيل قتل على وجه الأرض من بني آدم، ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به فخاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعكفت عليه السباع، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فحينئذ {قَالَ ياويلتي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ} عطف على {أكون} {سَوْءةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} على قتله لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره ولم يندم ندم التائبين، أو كان الندم توبة لنا خاصة أو على حمله لا على قتله. ورُوي أنه لما قتله أسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلاً. فقال: بل قتلته ولذا اسود جسدك. فالسودان من ولده. وما رُوي أن آدم رثاه بشعر فلا يصح لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر.
{مِنْ أَجْلِ ذلك} بسبب ذلك وبعلته {وذلك} إشارة إلى القتل المذكور. قيل: هو متصل بالآية الأولى فيوقف على {ذلك} أي فأصبح من النادمين لأجل حمله ولأجل قتله. وقيل: هو مستأنف والوقف على {النادمين} و{من} يتعلق ب {كتبنا} لا ب {النادمين} {كَتَبْنَا على بَنِى إسراءيل} خصهم بالذكر وإن اشترك الكل في ذلك لأن التوراة أول كتاب فيه الأحكام {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً} الضمير للشأن و{من} شرطية {بِغَيْرِ نَفْسٍ} بغير قتل نفس {أَوْ فَسَادٍ فِى الأرض} عطف على {نفس} أي بغير فساد في الأرض وهو الشرك، أو قطع الطريق وكل فساد يوجب القتل {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً} أي في الذنب. عن الحسن: لأن قاتل النفس جزاؤه جهنم وغضب الله عليه والعذاب العظيم، ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك {وَمَنْ أحياها} ومن استنقذها من أسباب الهلكة من قتل أو غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} جعل قتل الواحد كقتل الجميع، وكذلك الإحياء ترغيباً وترهيباً لأن المتعرض لقتل النفس إذا تصور أن قتلها كقتل الناس جميعاً عظم ذلك عليه فثبطه، وكذا الذي أراد إحياءها إذا تصور أن حكمه حكم جميع الناس رغب في إحيائها {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ} أي بني إسرائيل {رُسُلُنَا} {رُسلنا}: أبو عمرو {بالبينات} بالآيات الواضحات {ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذلك} بعدما كتبنا عليهم أو بعد مجيء الرسل بالآيات {فِى الأرض لَمُسْرِفُونَ} في القتل لا يبالون بعظمته.
{إِنَّمَا جَزَاؤُاْ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} أي أولياء الله في الحديث: «يقول الله تعالى: من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة» {وَيَسْعَوْنَ فِى الأرض فَسَاداً} مفسدين، ويجوز أن يكون مفعولاً له أي للفساد وخبر {جزاء} {أَن يُقَتَّلُواْ} وما عطف عليه وأفاد التشديد الواحد بعد الواحد ومعناه أن يقتلوا من غير صلب إن أفردوا القتل {أَوْ يُصَلَّبُواْ} مع القتل إن جمعوا بين القتل وأخذ المال {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم} إن أخذوا المال {مّنْ خلاف} حال من الأيدي والأرجل أي مختلفة {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} بالحبس إذا لم يزيدوا على الإخافة {ذلك} المذكور {لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدنيا} ذل وفضيحة {وَلَهُمْ فِى الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} فتسقط عنهم هذه الحدود لا ما هو حق العباد {فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر لهم بالتوبة ويرحمهم فلا يعذبهم.
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله} فلا تؤذوا عباد الله {وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة} هي كل ما يتوسل به أي يتقرب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك، فاستعيرت لما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك السيئات {وجاهدوا فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض جَمِيعاً} من صنوف الأموال {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} وأنفقوه {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} ليجعلوه فدية لأنفسهم. و{لو} مع ما في حيزه خبر {إن}، ووحد الراجع في {ليفتدوا به} وقد ذكر شيئان لأنه أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة كأنه قيل: لِيَفْتَدُواْ بِذَلِكَ {مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فلا سبيل لهم إلى النجاة بوجه {يُرِيدُونَ} يطلبون أو يتمنون {أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} دائم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6